Friday, February 25, 2005

رامه


هل بدأ الفيلم منذ فترة طويلة ؟-
تقريبا خمس دقائق فقط-
و التفت لأرى وجه المتحدثة في نظرة خاطفة ، لكنى بعدها لم استطع متابعة الفيلم أو الاحتفاظ بتوازنى ، كانت جميلة حقا و من نوعى المفضل ، بشرة بيضاء صافية ، وجسد ضئيل تغطيه ملابس رياضية خفيفة ... جاكيت ، سروال ، و تى شيرت فاتح اللون ، و شعر قصير يقترب بصعوبة من كتفيها الصغيرين ..
كنت أعرف أن الأمر لن يتعدى حالة افتتان تستمر ليوم أو يومين لتترك ذكرى لطيفة عن فتاة جميلة جلست بجوارى ذات يوم في قاعة السينما اتذكرها بحنين شِعرى في شيخوختى ، لكن في الاستراحة القصيرة في منتصف الفيلم ، وجدتها تخاطبنى بعينى طفلة
هل تحب أفلام "كوبالا-
انه المفضل لدى-
كانت تحضر الفيلم لوحدها ، و كذلك أنا ، لم يوجد في القاعة غير خمسة أفراد أخريين غيرنا ، شاهدنا الفيلم و عرضت عليها أن تتناول شراب ما معى فوافقت


.
* * *


تدرس السينما ، و تحب الموسيقى الكلاسيكية تكره عبور الشوارع المزدحمة و تعشق الرقص ، و انا -حينها- كاتب ُ شاب أعمل أمين للكتب في "دار الحكمة " ، أحب الخبز المحمص و أكره ضوضاء النهار ، و استمتع بمشاهدة الرقص لكنى لا أمارسه


* * *


في اللقاء الخامس لنا تزرعت بحجة اعطائها " المجلد الأول من الأعمال الشعرية " لمتورم القدمين ، و طلبت منها الصعود معى إلى شقتى الصغيرة في ذلك الوقت ، و على صوت الموسيقى ..رقصت منفردة لى أجمل رقصة ترقصها عذراء لشاب عاذب
أحببت رامة ، و احبتنى ، يوما بعد يوما كان كلاً منا يزداد إيغالا في الأخر ، حتى مرت سبع سنوات لم نفكر في الزواج ، لم نفكر في المستقبل .. هى كانت تعمل " مساعد مخرج " و انا كنت قد تركت الكتابة الأدبية و اتجهت إلى التاريخ ، هى تفكر في الهجرة لأمريكا لأنها تحلم بالتمثيل أمام " كلاك جيبل " ، و أنا كنت قد حضرت للبلاد بعد رحلة طويلة دامت لمدة سبع سنوات بصحبة السيد " طوربارا " ..

لم تكن "رامه " أول حبٌ لى أو أخر حب ، لكنها كانت عاصفة النار التى صنعت كل شئ



يد القدر


كنت في السادسه حينها عندما دلفت لأول مرة إلى المكتبة العامة في ميدان الملائكة .. مكتبة دار الحكمة ، أعرق مكتبات بلادنا و أوسعها ، حينها كان الوقت ليلا يقترب من السابعة ليلا .. و كالمسحور عبرت في الممرات من قسم كتب الفن القديم ، الى رسومات الفنانين الكلاسيكين ، الى الكتالوجات الضخمة ذات الورق المصقول و الألوان اللامعة ، توقف قليلا عند قسم الفن الايروتيكى و رسومات النساء و الرجال و الاطفال العرايا أتأملها بدهشة الطفل

خرجت بعدها لاتحسس مجلدات الشعر الفخمة ذات الأحرف المذهبة و صور الشعراء التى تزين اغلفتها الأخيرة ، و بينما انتقل بعينى من رف لرف .. وجدته في مواجهتى بلحيته البيضاء الطويلة و رداءه الأبيض كرجل خرج لتوه من كتب الأساطير .. نظر مباشرة نحو عينى ، لكنى لم ارتعب ، مد يده الى ، فسلمته كفي ، اتسع ثغره عن ابتسامه و قال
أنا هلداك كبير الأمناء .. تعالى معى -

و كأنى اعرف!!! تبعته بخطواتى الصغيرة التى تليق بطفل في السادسة و صلنا إلى رف للكتب المكتوبة باللغة الهيروغلفيه المقدسة ، فمد يده للرف الثالث من فوق و عد خمس كتب من اليمين ثم سحب الكتاب السادس ، فتحركت الأرفف كلها نصف دورة ، و كشفت عن سلم طويل يقود للأسفل .. نزلنا معا تسع و تسعين درجة على ضؤ كشافا كهربي حتى و صلنا الى ممر بطول سبعين خطوة ينتهى بباب حديث الشكل الكترونى المفتاح ، فلما دخلنا رأيت و لأول مرة بعينى " ذخيرة الحكم" كنز الامبروطورية المقدسة المحفوظ بحروف دقيقة ببنط 7.5 على اوراق رقيقة مجموعة كل 500 صفحة في مجلدات بطول 25 سم و عرض 18سم مصفوفة في صفوف طويلة لا تنتهى تملئ قاعة تتسع لدائرة "ميدان الملائكة "بالمبانى المحيطة به

و قفت مذهولا على الحافة أتأمل الأصفف تحت الإضاءة المبهرة لمصابيح النيون الكثيفة التى تغطى المجلدات بغلاف من النور المبهر .. لثلاث دقائق من الصمت و قفنا ، و حين عدنا بعضها ، همس في أذنى و هو يودعنى على باب المكتبة
احفظ السر -
ثم التفت لأبى الذى اتى لاصطحابي
لقد كان و لدا طيبا -

* * *

بعدها بسنوات طويله حين سألت "هلداك "لما اختار ذلك الطفل ذو الست اعوام في ذلك الوقت ليكشف له ذلك السر قال لى
كل مقدر في لوح مكنون يحمله نهر سيحون ، أنا لست سوى يد القدر -
ترى هل في تلك اللحظة التى تقرأ فيها تلك العبارة ،... أنت ايضا مدفوعا بيد القدر لتختارك انت لتعرف سرى الصغير .. و لترى معى امبروطوريتنا و هى تتداعى

القصيدة و القصر



في ذلك اليوم، أطْلع الإمبراطور الشاعر على مملكته .سار الاثنين كشقيقين ، تركوا خلفهم أبواب القصر الستين ذات اللونين الفضى و الذهبي ، و خرج الاثنان ، إلى جنة صغير ملحقة بحديقة القصر و محاطه باغصان الاشجار المتشابكة ، سار الاثنين كطفلين


أضاعا أنفسهم في الجنة، بمرح في البداية، و بكامل ارادتهما ، كأنهما يتنازلا ليلعبا لعبة، لكن بعد ذلك ، لاحظ الاثنين ان طرق الجنة المستقيمة تتعرّض للتقويس، بشكل خفيف جدا، لكن متواصل (وبشكل سري اسمحوا لى ان اخبركم ان تلك الطرق كانت عبارة عن دوائر).

قرب منتصف الليل أتاحت لهم مراقبة النجوم وأضحية سلحفاة ملائمة كانت تتبع ظل الامبراطور كنوع من البروتكول الامبراطورى تحرير أنفسهم من ذلك المكان الذي يبدو أنه مسحور، لكن لم يتحرّروا من إحساسهم بأنهم ضائعين، فقد رافقهم ذلك الشعور حتى النهاية.
اجتازوا ردهات وباحات ومكتبات في تلك الأثناء، وغرفة سداسية تحوي ساعة مائية، وفي صباح ما وهم فوق برج ما، لمحوا رجلاً حجرياً، لكنهم فقدوا رؤيته بعد ذلك إلى الأبد.

عبروا الكثير من الأنهار الصافية في زوارق من خشب الصندل، ربما كان نهر واحد عبروه مرّات عديدة. كان يبدو من المستحيل أن تكون الأرض شيئاً سوى حدائق، برك مياه، مبان، ومنشآت فخمة. كل عدة مئات من الخطوات يشق برج السماء، كانت ألوانها تبدو للعين متشابهة، لكن في الواقع كان أولها له لون أصفر، والأخير قرمزي، كان التدرّج في الألوان دقيقاً جدا

الى هنا تقول الحكاية ان الامبرطور جمع الرعايا و و افتخر امامهم بقصرة الذى جمع الدنيا و الاخرة و قال جملته المشهورة:
أأنا الأعظم ام صاحب الكلم

كان ذلك عند سفح البرج ما قبل الأخير حيث ألقى الشاعر -الذي بدا كأنه لم يتأثر بالأعاجيب التي أدهشت الباقين- القطعة القصيرة التي نجدها اليوم مقترنة باسمه بشكل دائم والتي، كما يراها أعظم المؤرخين، منحته الخلود والموت. على كل فُقد النص.

هناك البعض الذي يؤكّد أنه يتكوّن من سطر واحد، وآخرون يدّعون أنّه لا يحوي سوى كلمة واحدة. الحقيقة، الحقيقة التي لا تُصدّق

أنه في القصيدة ينتصب القصر الضخم، بشكل كامل ومفصّل بدقّة، بالخزف اللامع وكل رسم على كل قطعة خزف والضوء والظلال لكل بزوغ فجر وكل لحظة تعيسة أو فرحة للسلالات الحاكمة المجيدة للموتى، الآلهة، والتنينات التي أقامت فيه من الماضي السحيق. لزم الجميع الصمت، لكن الإمبراطور صرخ بجملته الاشهر من جملته الاولى :
لقد سرقت مني قصري

وصرع سيف الجلاد الشاعر.
يحكي آخرون القصة بطريقة مختلفة. فلا يمكن أن يوجد شيئين متشابهين في العالم، ، يقولون، ان الشاعر كان عليه فقط أن يلفظ القصيدة كي يختفي القصر، وكأنه مُحي، وينسف إلى أجزاء صغيرة بمجرّد الوصول إلى المقطع الأخير.

أساطير كهذه، بالطبع ليست سوى خيال أدبي. فالشاعر كان عبداً عند الإمبراطور وعلى هذا النحو مات. ومؤلفه غرق في النسيان لأنه يستحق النسيان ولا زالت سلالته تبحث عن تلك الكلمة الواحدة التي تحوي الكون ، وسوف لن تجدها،.


القراءة

‎‎

كما أحب هذا البلد ، هذه الشوارع و الارصفة التى حملتنى مكتئبا كنت أو سعيدا ، في صغرى كنت أحلم أن أعمل سائقا للقطارات أو شاحنات النقل الضخمة .. اتنقل عبر روبوع امبروطوريتنا الشاسعة او اسافر عبر الحدود باتجاه الدول المجاورة على كل كان هذا قبل أن اصل إلى المرحلة الثانوية و اصاب هنا بداء القراءة الذى لن افلح في الشفاء منه حتى الأن

بالنسبة لى لا تعنى القراءة الامساك بكتاب ما و دحرجة العين عليه من اليمين إلى اليسار او من اليسار إلى اليمين إذا كان بلغة اجنبية ، هناك معنى اعمق امنت به و يتستر خلف عملية القراءة .. مثلا رحلتى بصحبة السيد طوربارا و التى استمرت لست سنوات سيرا على الاقدام هى نوع من القراءة ، قراءة في الارصفه و الطرق الوعرة و المسفلته و المبتلة و المتعرجة و العشبية و الصحراوية و الناعسة و المتيقظة و الغاضبة و الراضيه حتى الوجوه المبتسمة كنا نمشى عليه مثل عين تتدحرج على صفحة الكتاب

مدخل



لا أرى أى أمل في تدارك النهاية و الإفلات من المصير الذى يحاصر الكل ، لكن اليوم و بعد
انصراف كل ضيوفي ، و بقائى و حيدا هنا بصحبة البطة الرشيقة التى تركوها .. اجدنى مدفوعا بالرغبة التى تملكتنى عبر سنوات من الصمت و الكتمان إلى تسجيل كل ما ابصرته و علمته لى الأيام و التورايخ المتاعقبة .. الى الوقوف وحيدا شاهدا على الاطلال التى تتداعى لا يصحبنى الا تلك الرغبةالتى سكنتنى لسنوات طويلة ، لتدفعنى هذه المرة
لأبدأ بمنتهى الصدق ، إعادة خلق ما كان
، أيها السادة .. محادثكم ادوسيوس نوار الناجى
هذا اشياء من إمبروطورية تتداعى